قصة واقعية يحكيها شيخ الشام حسن حبنّكه الميداني-رحمه الله- يقول: كنتُ عائدًا إلى بيتي قبل المغرب بساعة ،في يومٍ من أيّام رمضان..فاستوقفني رجل فقير من الذين يترددون على درسي في البيت والمسجد تردد الزائر سلم علي بلهفة أدْمَعت عيني وقال لي:أستَحلِفك بوجه الله أن تَفطر عندي اليوم ..يقول الشيخ: عقدتْ لساني لهفته وطوّقت عنُقي رغبتُه وأشرق في قلبي وجهٌ
استحلفني به،فقلت له:يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح ولكن،يقول الشيخ: وجدت نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظروْفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار، يقول الشيخ: وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفة ومطبخ وفناء مكشوفٌ صغير
على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب ، لا يحتمل صعود شخصين؛ فخشباته تستغيثُ من وهَن خلفهُ بها الفقرُ والقِدَم..كانت السعادةُ تملأ قلب هذا الرجل، وعباراتُ الشكر والامتنان تتدفّق من شفتيه
وهو يقول : سيدي هذا البيت مِلكي (الملك لله)لا أحد له عندي دين ،، سيدي: الشمس تشرق على غرفتي الصبح وتغرُب من الجهة الثانية .. وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب .. وزوجتي الله يرضى عليها تجلس على هذا الشبّاك ،وتدعو الله لي ..والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة. يتابع الشيخ ويقول: كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذر خشْيَةَ السقوط
لحظات.. ووصلنا إلى الغرفة وجلس وذهب الرجل إلى زوجته في المطبخ وسمع الشيخ صوتاً خافتاً من صاحب الدار يقول لزوجته في المطبخ: جهزي الفطور ..
الشيخ حسن حبنّكه سيفطر عندي، وصوت زوجته تقول:
ياويلي ، ما عندي أكل غير فول مدمّس،ولم يبق على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة .. ولا شيئ عندنا نطبخه،ولو عندنا فالوقت لا يكفي، سمع الشيخ هذا الحوار..جاء صاحب الدار،فقال له الشيخ : يا أخي لي عندك شرط .. فقال الرجل: نعم سيدي ..فقال : أنا أفطر مع أذان المغرب على ماء ومعي التمر .. ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعة من الأذان بعد ما أهضم التمر والماء
وأصلي وأُنهي وِردي اليومي.. ولا آكل إلا فول مدمّس وبطاطاس.. فقال الرجل: أمرك سيدي .. فقال الشيخ:
إذن دعني الآن لأختلي مع ربي .. وتمّ ما أراده الشيخ وأفطر عنده ثم غادر. يقول الشيخ: لقد اخترت البطاطاس ،لأنها زادُ الفقراء وأحسبها عندهم، وقد خرجت وكلي سعادة وبهجة، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل الذي ما نَزلت من فمه عباراتُ الثناء والحمد على نعم الله وعلى هذا البيت الذي ملكهُ الله إياه، وعلى هذه الحياة الجميلة التي يتغنى بها، يقول الشيخ: ثم دُعيت بعد أيام مع مجموعة من الوجهاء على الإفطار، عند أحد التجار الأثرياء، وكان من الذين أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب.. وكانت الدعوة في مزرعة فخمة فيها مما لذّ وطاب، يتوسطها منزل
أقرب ما يكون للقصر، يطل على مسبح ومربط خيل فيه نوادر الخيل الأصيلة،يقول الشيخ: أفطرنا عند الرجل، وأثناء المغادرة .. انفرد صاحب الدعوة بي، وشكى لي من ضيق الحياة، وهموم التجارة ومتاعب الأولاد وسوء طباع زوجته وطمع من حوله به، وكَثرَة المصاريف وجريه المتْعِب لإرضاء الجميع ...وسأمه من هذه الحياة ورغبته بالموت ليتخلص من هذه الهموم!! يقول الشيخ: من باب منزل صاحب الدعوة إلى باب سيارتي سَود هذا الرجل الدنيا في عيوني ..وأطبق علي صدري وأنفاسي،فنظرت إلى السماء بعد أن ركبت بسيّارتي،
وأنا أقول في قلبي: الحمد لله على نعمةِ الرضا ..فليست السعادةُ بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادة حُسنُ صلَة بالله ورضىً بما قَسمه الله عزوجل.